ملامح أساسية للمرحلة الإنتقالية

نحن الآن في مرحلة انتقالية. دعني أعيد كتابة هذه الجملة. نحن الآن في “مرحلة انتقالية”. الكل يصف هذه المرحلة الانتقالية إلا أنه من الواضح أنه ليس هناك مفهوم واحد لها.

المرحلة الانتقالية ليست مجرد ملء فراغ في السلطة كما يبدو أن القائمين علي الحكم الآن يفهمون ، وكما تود أمريكا أن نفعل. كل التصريحات من واشنطن تؤكد علي ضرورة الانتقال إلي حكومة ديموقراطية منتخبة بأسرع وقت ممكن. يالا بسرعة دلوقتي حالا فورا. لكن هل هذه مرحلة انتقالية؟

المرحلة الانتقالية هي انتقال من نظام مستبد إلي نظام عادل. نظام مستبد يكرس للديكتاتورية ويشجعها ويساعد عليها عن طريق القواعد الأساسية القائم عليها النظام. نظام عادل يكرس للديموقراطية ويشجعها ويحميها عن طريق دستور يمثل كل المصريين ليس فقط في منتجه النهائي ولكن أيضا في طريقة إنتاجه.

ما نفعله من كتابة دستور وعمل انتخابات يعبر عن بعض مظاهر المرحلة الانتقالية ولكن ليس عن مضمونها، وإن لم نحقق مضمون المرحلة الانتقالية فإحنا هنعيش المرحلة الانتقالية ديه تاني وتالت ورابع وعاشر.

قبل أن أنتقل إلي شرح لماذا نبدو أننا علي الطريق الخاطئ (في ظل الخطوات الأولي المعلنة حتي الآن)، دعني أذكر أن المرحلة الانتقالية لها ثلاثة أركان أساسية:

أولا: إغلاق ملفات الماضي بشكل عادل: سواء كان فساد نظام مبارك، تعديات الداخلية في عهده، أحداث الثورة، استعادة الأموال المسروقة، تعديات مرسي وجرائم الإخوان، كشف حقيقة ما حدث في أي موضوع تم دفنه أو أي ملف من هذه الملفات أو ما شابه. المطلوب هو غلق صفحة الماضي إلي غير رجعة عن طريق إرضاء كل مظلوم وإعادة حقه إليه حتي ترضي النفوس. لا يمكن إقامة نظام عادل علي ميراث من الظلم.
ثانيا: تحديد شكل المستقبل: وليس فقط كتابة دستور فيه “كوكتيل” من المواد البراقة المنقولة من دساتير دول العالم أو حتي دساتير مصرية قديمة ولكن فعلا تحديد شكل المستقبل. مصر (ودول الربيع العربي) لديها فرصة لم تتاح لدول غربية كثيرة. نحن في زمن “ما بعد الديمواقراطية” وليس المقصود بذلك هو أن عهد الديموقراطية إنتهي ولكن المقصود هو أن تجربة الديموقراطية الآن مر عليها من الزمن ما يكفي للإستفادة من أخطاءها. تجارب الإشتراكية والرأسمالية كذلك نفس الشئ. الدول العربية (وخصوصا مصر) تريد أن تبني دولة ديموقراطية لكن دولة تختلف عن دول العالم الغربي الذي تقوم ديموقراطياته علي مرجعية ليبرالية. مصر تريد أن تقيم ديموقراطية علي مرجعية إسلامية. إذا ما كان هذا ممكنا أم لا أو حتي منطقيا أم لا هو موضوع يستحق نقاش أكبر من أن يدار في غرف مغلقة وأهم من الاستسلام لضغوط حزب أو تيار واحد بإضافة مادة هنا أو تعديل نص مادة هناك. أضف إلي ذلك أننا الآن لسنا في عالم الثورة الصناعية ولكن فعلا في عالم ما بعد ذلك. الهدف ليس بناء دولة القرن الحادي والعشرين ولكن دولة القرن الثاني والعشرين.
ثالثا: الإنتقال من أولا إلي ثانيا: ليس كافيا إغلاق صفحة الماضي وتحديد شكل المستقبل حتي تحقق الثورة أهدافها ولكن مطلوب إدارة الإنتقال من هذه المرحلة إلي تلك لأن المقاومة ستكون شديدة. المقاومة ستكون شديدة من هؤلاء الذين عليهم أن يدفعوا أخيرا ثمن جرائم ارتكبوها في الماضي. المقاومة ستكون شديدة من الفلول (فلول مبارك أو فلول مرسي) ، الفلول الخاسرون من إقامة دولة الثورة ، الراغبين في العودة إلي دولة الظلم المنحازة إليهم. فلول مبارك يريدون العودة إلي دولة مبارك وفلول مرسي يرغبون العودة إلي دولة مرسي. كلاهما دولة منحازة إلي فئة من المستفيدين علي حساب السواد الأعظم من الشعب المصري. الفلول ليسوا من ارتكبوا جرائم. هؤلاء اسمهم “مجرمين”. لكن الفلول منحازين للظلم. أحيانا لأنهم يضعون مصلحتهم فوق مصلحة الآخرين وغالبا لأنهم لا يرون أن انحياز الدولة لهم هو ظلم. لا يرون أن الإبقاء علي الغني غنيا والإبقاء علي الفقير فقيرا ظلما وإنما جزء من حكمة الله في الكون. لا يرون أن العدالة الاجتماعية هي شيئ أكثر من جمع التبرعات للفقراء والمساكين. لا يرون أن التعامل بين الطبقات لا يمكن أن يكون بطريقة أخري غير أن يدرك كل واحد مكانه، ويستسلم لحقيقة أنه مكانه للأبد. الفلول يعوضون عن انحيازهم للظلم بالقيام بالكثير من الأعمال الطيبة مثل التبرعات والتعامل مع الطبقات الأدنى معاملة حسنة. هم أيضا ينظرون للتغيير الذي تحدثه الثورة علي إنه نوع من الإخلال بالتوازن الطبيعي للأشياء. الحل في التعامل مع الفلول ليس استعداءهم ولكن تحييدهم. الحل هو إقامة دولة الثورة العادلة والقضاء علي أحلامهم بالعودة إلي الدولة المنحازة إليهم. الحل هو إقناعهم بإنشاء واقع جديد فيه يفهمون أن المعادلة ليست صفرية، أنه من الممكن لهم أن يعيشوا حياة كريمة ليست علي حساب آخرين.

في الإعلان الدستور الصادر مساء 8 يوليو (لأن كل حاجة رسمية في مصر لازم تحصل بالليل وإلا لا تحلي السهرة) تخلي رئيس الجمهورية (والمجلس العسكري من خلفه) عن الترسيبات الأولي بخصوص كتابة دستور جديد واتخذوا طريق إجراء تعديلات علي الدستور المعطل حاليا (أعظم دستور في تاريخ كوكب الأرض والكواكب المجاورة). تعديل الدستور بدلا من كتابة دستور جديد من شأنه تقليل مدة الفترة الانتقالية (يعدل الدستور في 4 شهور). وحتي الطريقة التي يتم بها تعديل الدستور طريقة معيبة حيث يقوم أساتذة قانون بصياغة تعديلات ويقوموا بعرضها علي مجموعة أوسع من النخبة لتناقشها ثم تعرض علي الشعب للموافقة. أنا لست ضد مصطلح “النخبة” مثل البعض. بالعكس، الناس مش زي بعضها وأي مجتمع لازم يكون فيه نخبة تكون أدري من باقي الشعب. لكني ضد أن تكون النخبة وصية علي الشعب وتختار له ولا تشركه في اتخاذ القرار وتحديد مصيره. علي النخبة أن تعرض الطريق وتشرح لماذا هو الطريق الأصلح ثم يقوم الشعب باتخاذ هذا الطريق ويسلكه. الطريقة التي يتم بها تعديل الدستور لا تؤسس أن يحدث حوار مجتمعي حقيقي يعكس إرادة الشعب (الذي خرج بالملايين مطالبا بحقوقه بينما انتظرت النخبة ما سيسفر عنه التحرك). حوار مجتمعي يشرح للناس ما هو الدستور وأهميته وتفاصيل مواده. حوار مجتمعي ينتج عنه في النهاية أن يشعر المواطن المصري بأنه يمتلك هذا البلد وأنه شارك في كتابة دستورها وتحديد مصيرها. وأنه لا ينتمي لها بالمولد ولكن بأنه يبني حاضرها ومستقبلها.

ما نحن فيه الآن هو إعادة لما كنا عليه بعد 11 فبراير. إذا قلت لي من سنة أو ستة أشهر أو حتي شهرين فقط أننا سيتاح لنا فرصة أن نبدأ من جديد ولنا ميزة التعلم من دروس الماضي لم أكن لأصدقك. لكني دعني أؤكد لك أننا قد نعود إلي مربع الصفر مرة أخري إذا لم نتعلم الدرس وفقط حفظناه. إذا استمرينا في إقامة دولة مظهرية فيها فقط مظاهر الدولة لن نحقق النتيجة المرجوة. إذا إستمرينا في إقامة ديموقراطية ظاهرية فيها فقط مظاهر الديموقراطية لن نحقق أي استقرار.

نحن بالفعل نملك دولة فيها مؤسسات مظهرية ، عندنا تعليم مش بيعلم ، وصحة مش بتعالج ، وطرق مش بتوصل. وإذا لم نبني أساس صحيح لدولة ديموقراطية قوية فإن ما سنحصل عليه هو ديموقراطية مظهرية فيها إنتخابات لا تعبر عن إرادة الشعب وحكومة لا تخدم وسياسة ليست إلا صراع علي السلطة.

القوي الثورية تقوم بمجهود محمود لتصحيح الخطوات الأولي التي اتخذها القائمين علي الحكم. لكن لابد لهذا المجهود أن يكون أكثر من رد فعل لكل فعل تقوم به السلطة. لابد أن يكون في إطار معلن يهدف لتحقيق الأهداف التي ذكرتها بالأعلى، أو أي إطار يكون منطقي ومتكامل ويهدف لتحقيق أهداف الثورة.

دعني أنهي بالحقيقة التي قد تكون صادمة للبعض: المرحلة الانتقالية ستحتاج وقتا أطول من بعضة أشهر. ثمانية أشهر ليست فترة كافية لميلاد طفل وليس ميلاد نظام ديموقراطي. ثمانية أشهر ليست فترة كافية لتأسيس بيت لعروسين بما بالك بتأسيس دولة متقدمة. أنا أريد للمرحلة الانتقالية أن تنتهي الآن، لكن هذا من الأماني والأماني ليس لها حدود. الأهم من مرحلة انتقالية قصيرة هو مرحلة انتقالية صحيحة. الأهم هو مرحلة انتقالية نمر بها مرة واحدة فقط. نحن الآن علي بعد سنتين ونصف من 11 فبراير ومع هذا ننظر في أن نبدأ المرحلة الانتقالية لأننا في المرة الأولي أخذنا الطريق الأسرع وليس الطريق الأصح.

مرحلة انتقالية طويلة لا تعني بالضرورة عدم استقرار ولا تعني بالضرورة فترة من عدم اليقين. الاستقرار واليقين ينبعان من خطة واضحة والتزام من كافة القوي الوطنية ومن مؤسسات الدولة بتنفيذ هذه الخطة. عقد انتخابات تنافسية بعد عدة أشهر وبدون اتفاق وطني واضح وبدون مصالحة بين الأطراف التي مازالت حتي هذه اللحظة تتصارع في الشارع لدرجة إراقة الدماء هو انتحار. التنافس بين أطراف لم تتفق علي قواعد التنافس ولم تقبله بعض الأطراف أصلا هو سباق إلي الأسفل يصل بنا إلي التناحر.

مرحلة انتقالية قصيرة هي شيئ مرغوب من كافة الأطراف لكنها بهدف أن تعود الأمور إلي طبيعتها وليس بأن ننهي المرحلة الانتقالية ونرفع لافتة تعلن عودة الأمور إلي طبيعتها. إذا ما أنهي مريض عملية جراحية كبيرة عليه أن يمر بمرحلة نقاهة ينتقل فيها من المرض إلي الصحة. يقدر الأطباء مدة المرحلة بناء علي خبرتهم وليس علي رغبتهم، يقوموا بإطالة المرحلة إذا لم يحقق المريض العلامات المنتظر تحقيقها. يود المريض أن يعود إلي حياته الطبيعة لكن العودة مبكرا تعني أنه سيعود مرة أخري قريبا إلي غرفة العمليات.

خطوات تأسيس مرحلة انتقالية صحيحة هي تفاصيل أكثر من مجرد التعامل مع الماضي والحاضر والمستقبل لا يتسع مجال كافي لذكرها لكن ربما في تدوينات قادمة إن شاء الله.

إنشر
%}