'إحنا بنشتري راجل'

“الوقت ضيق وطرح البرنامج سيتبعه جدل ومناقشات لن يسعفنا الوقت للرد عليها”. هكذا وصف المتحدث بإسم حملة السيسي سبب عدم طرح برنامج. بصرف النظر عن أنه سبب غير منطقي إطلاقا لأن الوقت المتاح هو وقت الحملة الانتخابية و – بالطول أو العرض – لابد أن يكفي لطرح أي برنامج مهما كان حجم الجدل الذي سيثيره. وبصرف النظر عن كمية الغطرسة التي يحتويها هذا التبرير كأن حق الحملة والمرشح في الرد علي الأسئلة أهم من حق الناخبين في طرح الأسئلة والإطلاع علي برنامج أي مرشح. الأهم هنا هو: لماذا لم تطرح الحملة مجموعة أفكار في كام ورقة وتسميهم برنامج؟. الأهم هو: هل يحتوي هذا التبرير علي قليلا من الحقيقة؟ لماذا الاعتقاد أن البرنامج سيتبعه جدل كبير لدرجة أن وقت الحملة ليس كافي للرد عليه؟

ربما كان السبب أنه فعلا لا يدري ما هو البرنامج. كأن التجهيز لهذه الحملة لم يبدأ منذ أن قرأ البيان معلنا انتهاء حكم قائده. حتي وإن كان لا يدري ما هو البرنامج، ليس الحل هو عدم طرح برنامج وإنما هو طرح واحد من ألاف البرامج التي تم طرحها بالفعل مئات المرات. نفس القائمة المملة من الأفكار المعلبة من التسعينات عن كيفية بناء دولة عصرية ودخول مصر إلي القرن الحادي والعشرين.

ربما السبب هو أن هذه الحملة مثل سيارة تدور علي وقود من الغطرسة واليقين من انتصار ساحق يصل إلي حد التكليف الإلهي. ليس من الصعب تخيل هذا الحوار: “طب مش هنكتب برنامج؟” “المشير مش محتاج برنامج .. المشير راجل مرحلة وبرنامجه هو إنه الوحيد القادر علي إدارة الأزمة”. إذا كان صعب عليك التخيل، شاهد هيكل وهو يقول نفس الكلام بالحرف.

الطريف في الأمر هو فكرة أنه “الوحيد القادر علي إدارة الأزمة”. تخيل للحظة أن مرسي اختار شخص آخر وزيرا للدفاع. كل هؤلاء كان سيقولون “القائد العظيم هو الوحيد القادر علي إدارة الأزمة”. الأمر أشبه بتبرير أحقية أحد الأشخاص بمكسبه لجائزة اليانصيب بعد أن كسبها.

ليس من الصعب تصور أن العقليات التي تدير الحملة وتؤيدها مؤمنة بمنطق “إحنا بنشتري راجل”، وفي إنكار تام لحقيقة أن هذه جملة فارغة من معناها يقولها رجل غني علي وشك أن يكون أكثر ثراءا بعد أن يزوج إبنته لإبن رجل آخر غني، كلاهما يعرف جيدا ما يشتري وما يبيع.

ربما كان السبب هو استمرار لمنطق “أعطوني تفويضا”. كأن الفوز بالنتيجة الساحقة المتوقعة ليس تفويضا كافيا. كأن التفويض المعنوي الناتج من انتخاب شخص بدون الإطلاع علي تفاصيل برنامجه هو تفويضا حقيقيا يعادل الإمضاء علي ورق قانوني أو “شيك علي بياض”. أي تفويض هو في النهاية مرهون برضاء من أعطوا التفويض. عدم الإعلان عن برنامج – أي برنامج – لا يزيد أو يقلل من فرص الحصول علي تفويض أو طول صلاحيته.

ربما كان السبب – أو دعني أقول “غالبا” السبب – هو أنه يدري بالضبط ماذا يريد أن يفعل.

الدولة المصرية التي صنعها السادات، واستمر عليها مبارك، في مرحلة أزمة لم تمر بها من قبل. هي دولة قائمة علي حكم الفرد مع ديموقراطية شكلية ترضي الغرب. هي دولة قائمة علي التغني بإسم الاشتراكية التي تبناها عبد الناصر لكنها في الواقع تلهث وراء بريق الرأسمالية. هي دولة تقنن الخطيئة شرط أن تلتزم بمبادئ الشريعة الإسلامية. هي دولة رائدة في الإقليم رغم أنها تتبع سياسات صنعت في واشنطن والرياض. هي دولة مليئة بالمتناقضات تحاول أن تلتحق بعصر في حين أنها تؤمن قلبا وقالبا بعصرا آخر.

هذه الدولة استمرت حتي الآن ببركة دعاء الوالدين وصمت الشعب المصري الذي صدق لفترة طويلة أن “كل حاجة تمام” وإن “مصر أم الدنيا”. الآن لم يعد الشعب المصري صامتا ولا الأجيال الجديدة تصدق أيا من هذه الأكاذيب، كما أن الأساليب القديمة المستخدمة في التصالح بين هذه المتناقضات لم تعد ناجحة. لقد توقفت الموسيقي وحان وقت مواجهة الحقيقة.

لكن دولة المتناقضات مازالت تريد الاحتفاظ بتراثها، لذلك عليها اختيار أولويات. عليها التضحية ببعض التناقضات علي حساب تناقضات أخري. تناقض حكم الفرد ضد الديموقراطية هو أهم من تناقض الاشتراكية ضد الرأسمالية. تناقض الخطيئة ضد الشريعة الإسلامية هو أهم من تناقض دور مصر الريادي ضد التباعية للتحالف الأمريكي السعودي.

التضحية ببعض هذه التناقضات هدفه إعطاء دفعة من الحياة لهذه الدولة من أجل أن تعيش لتحارب ليوم آخر، من أجل أن تخرج من هذا المأزق الآن ثم تفكر فيما ستفعل غدا.

ربما كان الاقتصاد هو أكثر مجال سيشهد تضحيات بشعارات وأفكار طالما اعتبرت مسلمات للدولة والحكومة المصرية. حكومة نظيف كانت تحاول القيام بعمل بعض هذه التضحيات لكنها كانت محصورة بين واقع أنها حكومة عهد يحتضر وبين رجل علي قمة السلطة ملتزم بالشعارات أكثر من استيعابه للأرقام علي الورق.

الحكومة القادمة ليس عليها هذا الحرج لأنها تركب موجة شعبية اكتسبت شعبيتها من ضرورات الأمن التي دائما ما تغلب ضرورات الاقتصاد. بدون هذا الحرج، الحكومة القادمة تستطيع أن تنزع ما تبقي من مسئولية الدولة تجاه الشعب من دعم أو رعاية أو ما شابه. التحول سيكون سريع إلي رأسمالية وقحة يتم تدريسها والدعوة إليها في مراكز التفكير اليمينية الأمريكية وتدعو إلي مسئولية الفرد عن نفسه، إلي فضيلة رفع يد الحكومة عن الاقتصاد وإلي تشجيع القطاع الخاص والاستثمار الخارجي. هدف هذه الحكومة هو سد عجز الميزانية وجذب استثمارات، سيكون ذلك عن طريق رفع الدعم وإعطاء امتيازات وتسهيلات مقابل استثمارات وقروض. بعض مما تستطيع هذه الحكومة إعطاءه ليس له علاقة بالاقتصاد، مثل موافقة ومشاركة مصر في تحالفات وسياسات إقليمية إتباعا لسياسية “شخشخ جيبك”.

لكن في إطار سياسات الاقتصاد، سيكون هناك إعادة هيكلة وتخفيض لحجم القطاع العام وأجهزة الحكومة واطلاق يد التعهيد الخارجي لكل مهمة غير سيادية تقوم بها الحكومة. كما سيكون هناك تخفيف للقيود القانونية Deregulation لكن علي الطريقة المصرية، ليس عن طريق إلغاء قوانين لأن الدولة المصرية لا تتخلي عن السيطرة المطلقة أبدا، ولكن عن طريق إعطاء امتيازات واستثناءات.

في المقابل سيكون هناك مشاريع بنية تحتية وإصلاحات بنيوية كثيرة. هذه الإصلاحات سهلة إذا ما توفر التمويل (قروض). وتعرض هذه المشاريع علي إنها إنجازات عظيمة تصور للشعب علي إنها بداية عصر جديد من الرخاء. المأساة أن هذه المشاريع لن تضيف لدورة الاقتصاد إضافة إيجابية لأن القائمين عليها بشكل أساسي هم القوات المسلحة والشركات الأجنبية التي ستكون شريك أساسي في التنفيذ في ظل أن مصدر التمويل هو القروض. لن تضيف هذه المشروعات نقل للتكنولوجيا يذكر أو تقيم شركات مصرية جديدة أو حتي تدخل مصادر دخل أكثر من مرتبات العاملين القائمين عليها.

ولأن هذه المشاريع قائمة بشكل أساسي في جو استبداد وفساد، حتي لو كانت قائمة علي أفضل النوايا، فهي مثلها مثل أي مشروع من مشاريع مبارك: فرصة للنهب بشكل شرعي.

عندما قال المتحدث بإسم الحملة أن “طرح البرنامج سيتبعه جدل ومناقشات لن يسعفنا الوقت للرد عليها” ربما لم يكن غير بعيد عن الحقيقة. الأغلب أنه في لحظة صدق غير معتادة صرح بأكثر مما كان يجب أن يصرح به.

الفترة القادمة هي فترة مأساوية عبثية لأنها استمرار لمراهقات من أشباه أبطال رُفعوا إلي مصاف الآلهة بدون وجه حق بواسطة أنصاف متعلمين يعيشون خارج الزمن، سواء في العهد المنقضي أو الذي علي وشك البدء. كل ما نستطيع أن نطلبه الآن هو ألا يستمر هذا العبث فترة طويلة حتي يقضي الله أمرا كان مفعولا.

إنشر
%}