مصر أمانة

كل إسبوع والتاني، يخرج علينا السيد عبد الفتاح السيسي ليحضن الميكروفون ويتكلم لعدة دقائق تبدو كأنها دهرا. أنا من الممكن إني أبحث عن فيديو مثال لهذه الكلمات الغالية لكن رسالة السيد عبد الفتاح بسيطة للغاية: مصر أمانة بين إيديك يا رأفت.

مصر أمانة في إيديك يا رأفت

سيادة المشير فاكر إنه مازال مشير، وإنه يقف وسط جنوده الأوفياء (وفاء بحكم القانون والإنضباط العسكري والتهديد بالضبط والمحاكمة العسكرية لمخالفة الأوامر) وإنه تيسر من وقت سيادته دقائق قليلة إختار بحكمته إنه يستغلها في التواصل مع الجنود لرفع روحهم المعنوية وبث العزيمة في أجسادهم النحيفة. وقف سيادة المشير بدون بدلته العسكرية (ولكن وسط نفس صمت الجنود اللي تعرف عقوبة التنفس بصوت عالي) ليلقي علينا ما ألهمت به ألهة الكلام في حب الوطن والتضحية بكل ثمين وغالي من أجله وفي سبيله. أعتقد إن أصعب ما في هذه الإلقاءات علي الجمهور الحاضر هو لحظات الصمت. بيكونوا مش عارفين إذا ما كانت ديه فرصتهم للتصفيق الحاد والإثناء علي من حسبوه طليق اللسان، أم أنها لحظة إنتظار أخري لمزيد من الوحي الإلهي.
خارج القاعة، في العالم الواقعي ثلاثي الأبعاد، بالطبع الناس أذكي من إن يدخل عليها الكلام ده. والأهم، إنه يدخل عليها طريقة الكلام ديه. خارج القاعة، لا نملك إلا رد فعل واحد: السخرية. لأن الإختيار التاني (الإنتحار) حرام. لكن اليوم، أنا عايز أتوقف عن السخرية لعدة دقائق وأحضن أنا (المواطن رقم 1591) المايكروفون شوية وأشرح لسيادة المشير ليه لازم يبطل قصائده العصماء عديمة الوزن.
المسألة ليست فقط إننا مش جنود، وإننا مواطنين. وليست فقط إننا مدنيين، مش عسكريين ماشيين بالأمر والأقدمية والرتب والمحاكمة العسكرية (حتي لو كان كتير مننا دلوقتي ماشيين بالمحاكمة العسكرية).
المسألة ليست فقط إن وعودك الفارغة وشروحاتك الكذابة أصبحت أوضح من إنها تخدع طفل صغير.
المسألة ليست فقط الحيرة بين إذا ما كانت المأساة هي أنك بالفعل بتصدق الكلام اللي بتقوله أم المأساة أنك تتخيل أننا من الممكن أن نصدقه.
المسألة ليست فقط أنك كررت هذه الحلقة مرات عديدة قبل كده، وبتكررها مرة أخري إما متخيلا أنك نجحت في المرات السابقة أو أنك عدلت من الطريقة أو المضمون ما يكفي أنك متخيل أنها ستنجح هذه المرة.
المسألة ليست مصيبة أنك تتخيل أنك ممكن تقول “مصر بتقول لكم” كأنك مرسل إلينا من مصر أو أنك تتحدث بإسمها أو بالنيابة عنها أو لك من الحق أن تتدعي أي من هذه المسئوليات (أنا ترددت كتير إني ما إعتبرش هي ديه المشكلة الكبيرة، لأن ديه لوحدها مصيبة كبيرة أوي، أقسم بالله مصيبة كبيرة أوي يا عبفتاح، لكن ما علينا).

المسألة هي أن مصر مش أمانة

مصر مش السيدة اللي لابسة جلابية، اللي بتظهر في رسوم الكاريكتير في الجرايد الصفرا اللي إسمها جرايد الدولة. لا ليها مكانة ولا بتهون علي الدنيا ولا ليها حجم ولا بتتحاوج ولا بتحتاج.
مصر مش طالبة إننا ما نأكلش علشانها ولا عايزة إننا نصحي الليل لخاطرها.

مصر هي إحنا
إحنا مصر
فاهم أنا قصدي إيه؟

مصر هي أنا وأخويا وأختي وأبويا وأمي وأهلي وأصحابي وقرايبي وولادي من بعدي.
مش بس أنا، لأ كمان كل اللي زيي علي أرض البلد ديه إمبارح والنهاردة وبكره.
هي ديه مصر
لما أنا أجوع، مصر تجوع. لما أنا ما أنامش، مصر ما تنامش.
لما أخويا تطارده في الشارع علشان معترض إنك لاغيت إمتحانه للمرة العاشرة، إنت بتطارد مصر.
لما أختي تتجر من شعرها وهدومها، مصر إتجرت من شعرها وهدومها.
لما أبويا يقف في طابور المعاشات. أو أمي تقف في طابور التموين. أو أهلي يأخدوا العزاء في إبنهم اللي الشرطة خطفته وعذبته وقتلته. أو أصحابي يتجدد لهم الحبس للمرة السبعتاشر بدون وجه حق أو سبب. أو قرايبي يهاجروا غصبا عنهم أو يتمنعوا من السفر أو يتطردوا من المطار في أنصاص الليالي أو يتعايروا بإنهم أنصاف مصريين. أو أولادي من بعدي اللي خايف إنهم يبقوا حقيقة لأن الحقيقة، زي ما إنت شايف كده، مُرة.

هم دول مصر يا عبد الفتاح
هم دول مصر. وإنت موظف بدرجة رئيس
لا قائد ماريشال، ولا ملهم بوحي إلهي، ولا حتي لسه مشير.
موظف بدرجة رئيس
عليك تؤدي لكل هولاء حقهم قبل ما تطالب بمسئوليتهم، زي ما إنت أخدت سلطة قبل ما تتحاسب علي هتعمل بيها إيه.
لو مصر أمانة، فإنت اللي أهدرت الأمانة.

لو مش قادر تفهم ده، مفيش حاجة أقدر أعملها علشان أساعدك.
غير إن المرة الجاية لما ينزل الإلهام بدل السخرية، يمكن أختار البكاء.

إنشر
%}