وجوه في العاصفة

رجل الصفقات

تيم هاندرسون

جود إيفيننج … إسمي تيم هاندرسون … رجل صفقات بالمخابرات المركزية الأمريكية أو deals man … وظيفة جديدة نوعا ما .. مش موجودة بالنسبة لمعظم الناس … قصدي إن وجودها مش معروف … مهمتي إني أعمل صفقات لصالح الـ CIA .. لا لا لا مش صفقات تجارية .. صفقات إستخبارتية
كلمة كبيرة “إستخباراتية” ديه .. لكنها لا تحوي أبدا مخاطر المهنة ومهامها وتعقيداتها .. مهمتي إني أبحث عن بائع … للمعلومات .. أعرف سعره و أقدر حجم معلوماته و مصداقيتها .. و أتفق معاه بمجرد ما يأتي الأمر من قيادتي بالموافقة .. ديه مهمتي .. أو علي الأقل هي كده بالنسبة للبائع
أما بالنسبة لي فعندي مهمة أخري .. وهي إني أحصل علي معلومات البائع بدون الحاجة لدفع الثمن … لا لا لا لا لا … مش إني أقتله …. C’mon … ديه الـ CIA مش الموساد … إحنا ناس شرفاء جدا و كلمتنا واحدة و القتل مش وارد في قاموسنا … آه ساعات بنضطر نستعمل العنف .. و صحيح عندنا قسم للعمليات القذرة لزوم الـ dirty jobs … لكننا فعلا بنكون مضطرين
أنا قصدي إننا بنبحث عن طريقة أخري لإيجاد المعلومات مثل استنتاجها من معلومات أولية نحصل عليها من البائع تحت ستار التحقق من مصداقيته … أو إننا نضعه تحت ضغط عصبي ونفسي فيعترف بالمعلومات من نفسه … أو نساومه علي المعلومات … بعدم الإبلاغ عنه لمخابرات بلاده مثلا
الحالة الأخيرة اللي كنت بأتعامل معاها كانت لا تحتمل القيام بأي مناوشات أو خداع أو حتى التريث والتمهل … المعلومات كانت مطلوبة ومهمة وبسرعة … كانت مهمتي إني أتفق مع الجنرال … أو في الحقيقة …. الجنرالين


ثلاث ساعات بالسيارة مدة الرحلة حتى وصلت أخيرا إلي حيث يتواجد الجنرال … أو نقول عليه البائع … نزلت من السيارة وعدلت الشنب المستعار علي وجهي … الشنب مهم جدا في البلد ديه … لازم شنب لو كنت بتنتمي للبلد ديه .. و أنا بأنتمي ليها .. أو علي الأقل بتقول كده ملابسي العسكرية … نزلت المخبئ بسرعة علشان أجده في مواجهتي … نتيجة عملي علي مدار 10 أيام كاملة … هو صحيح مش صعب إنك تلاقي جنرال خائن في صفوف جيش علي وشك الإنهيار … لكن مش سهل أبدا تلاقيه في صحرا زي ديه
بعد برتوكولات التعارف … و هي تختلف قليلا عن برتوكولات تعارف الإتيكيت … طلب مني الجلوس وهو ينفث دخان سيجار كوبيا فاخر تعجبت من وجوده هنا … ومد يده بفنجال من القهوة التركية في كرم عربي واضح … لم يمنعه إنقلابه علي أهل بلده من التمتع به
قال: طلباتك ؟؟
قلت: مبدئيا … كل اللي تقدر تقدمه


أنا بأكره جنرالات الجيش الخونة … فاكرين إنهم أذكياء وإنهم مسيطرين علي الموقف تماما … مش كفاية كونهم خونة وإنهم بيتعاملوا مع ده علي إنه إضطرار وإنه حماية ليهم … لكن هتعمل إيه .. اللي زي دول هم السبب في إن واحد زيي لسه بيقبض مرتبه
فاكر إن 5 مليون دولار معضلة … قيادتي علي إستعداد إنها تدفع الضعف للإجابة علي السؤالين الأخريين فقط … لا وعامل ذكي .. غير مسلسلة .. يعني اللي عملوا لك حياة جديدة مش هيكونوا قادرين يتتبعوها
وعلشان إيه نتتبعه … الفلوس؟ الفلوس سهلة أوي في عالم زي عالمنا .. ورغم كده لازم أفاصل … علشان الأغبياء اللي في الكونجرس يبطلوا يشتكوا من ميزانية الجيش والمخابرات
يبدو إن كل اللي بأتعامل معهم أغبياء .. البائع .. والجنرال الأخر اللي واجهت أصعب وقت في التعامل معاه لتنفيذ عملية إخراج البائع … كل جنرال – سواء هنا أو هنا – فاكر إنه king of the world لمجرد إنه حاطط نجوم وصقور ونسور وسيوف علي أكتافه … وإن كاميرات التليفزيون تتسلط عليه وهو بيحكي عن بطولاته وبطولات جنوده
ورغم كل ده أنا معنديش مشكلة في أداء وظيفتي … بغض النظر عن رأي أي حد فيكم … أنا حمامة سلام … بسببي وبسبب اللي بأعمله .. بأنقذ أطفال وشيوخ ونساء … وبدل ما الجنرال – البائع – يحارب ضدنا … يستسلم ويعيش ويسيب غيره يعيش …. live and let live
أنا مش مهتم أوي بآرائكم … لأني متمسك برأيي … وبيخليني أنام مستريح … أنا مش بأخدم بلادي بس … أنا بأخدم العالم

الضابط

عادل العجاني

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته .. إسمي عادل العجاني … ضابط بالجيش العراقي … أو بمعني أدق بالجيش العراقي السابق … كنت أتولي القيادة في أحد المناطق قرب بغداد وقت سقوطها … من فضلكم لا تسألوني كيف حدث هذا … أفضل أن أحكي عن أن أجيب علي أسئلتكم … ربما أكشف اليوم بعض الحقيقة وربما يأتي يوما تكشف فيه بعضا أخر … صدقوني .. عندما يتعلق الأمر بأحداث كهذه .. تظل بعض الأمور قيد الكتمان مهما مر من زمان


كان يوما عصيبا .. التاسع من أبريل .. يوما طويلا ككل الأيام الحاسمة … بدأ مبكرا .. كنت أخذ قليلا من الراحة بعد أن إنسحبنا من مواقعنا الأولي تحت وطأة نيران الأمريكان وقصفهم وبأوامر من قيادتنا … إندفع عسكري المراسلة الخاص بي بسرعة إلي داخل حجرتي الصغيرة وهو يهتف : لقد أتوا .. لقد أتوا ..
إنتفضت من سريري: من؟


إن الحرب كانت أسهل من مما حدث في هذا اليوم … الحرب مواجهة .. إنظر أمامك وإقتل كل من لا يلبس مثل ردائك … لكن أن تفتش في نفس كل إنسان تقابله بحثا عن شيئا يدلك عن الجهة التي ينتمي لها فهذا شيئا أخر .. ليس لك حتى أن تفترض جهة … خاصة في وقت كهذا … فضابط مثلي لابد وأنه ضد الغزاة الذي يحتلون بلده … لكن مع حاكم كحاكمنا السابق لابد أن تفترض الخيانة … فهذا يبحث عن المال وأخر عن الحماية وثالث عن الإنتقام ورابع عن العدالة وخامس وسادس وأخرون … أسباب مختلفة كلها تبرر ما يفعلون .. أو علي الأقل تبرر لهم … لكنها لا تبرر لي … لم أفهم أبدا الخيانة ولم أجد لها منطقا
“كيف خرجت من العراق ؟؟” أسمعكم تسألون … إنها قصة طويلة نوعا ما … ربما يأتي وقتا أخر أقصها فيه … لكن يكفي أن أقول أن في وقت كهذا فأنت تجد ضباط مخابرات من مختلف الجنسيات من حولك … يكفي فقط أن تختار الجنسية التي تناسبك … و تدلي بالمعلومات التي تناسبك … ولك من المكافأة ما يناسبك … أنا لم أخذ مكافأة من أحد … أنا فقط أردت مأوي بعيدا عن هذا الجنون …. ولم أخون بلدي … لم يعد هناك بلدا أخونها … واخترت جنسية محايدة تجيد إستعمال المعلومات … أنا أردت معاقبة الطرفين .. المحتل والمهزوم … الأول علي جبروته المغرور … والثاني علي أنه لم يتعلم من الدرس الأول … أنا فعلا عملت كده … عاقبت الطرفين

المراسل

لي سو إيان

هاي … أنا إسمي لي سو إيان … مراسل حربي من بغداد لمحطة إخبارية صينية … قبل الرحلة ديه لبغداد لم أكن قد ذهبت لمكان أخر … أعني إني قد ذهبت لأماكن أخري خارج الصين … لكن ليس لمواقع حربية خاصة في وقت معارك عسكرية … أنا كنت متواجد داخل بغداد نفسها … وكنت متواجد في وقت سقوطها … مهم أوي إن المراسل الصحفي يكون متواجد في وقت الحدث … مهم يكون عنده شجاعة التواجد في المكان والوقت المناسبين .. وحتى إنه يكون عنده شجاعة إنه يصنع الحدث ويشارك فيه حتى لو أنكر نفسه ومشاركته وهو بينقله … أنا كانت عندي الشجاعة ديه .. كنت بأتنقل في بغداد بحرية … رحت كل الأماكن اللي سمحت لنا القيادة العراقية برؤيتها … وأحيانا حتى التي لم تسمح لنا برؤيتها


تحرك “لي” في صمت تحت جنح ظلام المدينة التي انقطعت عنها الكهرباء للمرة الثالثة هذه الليلة .. توقف للحظة وغير إتجاهه قليلا ثم إندفع تجاه ذلك الصوت … توقف عندما وصل للمكان الذي أتي منه الصوت … ووقف ينظر حوله كأنه يتنظر شيئا أو شخصا .. أو ربما ينظر ليري إذا ما كان هناك أخر يتبعه … ومن أعلي الشجرة التي يقف تحتها إنطلق ذلك الصوت


التواجد الإعلامي ببغداد في هذا الوقت كان في غاية الأهمية … صدام حسين كان ديكتاتورا بمعني الكلمة .. ودفع ببلده في مغامرات مجنونة أمام إيران مرة وفي الكويت مرة أخري ولم يتعلم الدرس أبدا … ووكالات الإعلام كلها نقلت سقوطه المدوي علي الهواء مباشرة إلي كل سكان العالم … وفضلا للتكنولوجيا الحديثة … نقلت الأحداث صورة فقط … لكنها صورة معبرة تمتلئ بالمعاني .. صورة لا تكذب .. تنقل فرحة العراقيين بسقوط الديكتاتور … صورة مجردة تترك للمشاهد الحكم … صورة تعبر عن شعب نال أخيرا حريته … نفس الحرية التي سمحت بنقل هذه الصورة …. حرية كالتي ربما نفتقدها في بلادي
الصورة نقلت سقوط صدام ونظامه .. ونقلت أيضا ضحايا هذا السقوط … الأبرياء الذين لقوا حتفهم و تضرروا من الحرب .. أطفال أبرياء وشيوخ ونساء لا ذنب لهم … لكن هذه كلها خسائر جانبية نتوقع حدوثها ولا ينبغي لها أن توقفنا عن هدفنا … ولا يعني هذا أنها مقصودة .. ولو كان هناك طريق لتجنبها لحدث هذا … ولكن لا يوجد
لا يوجد

الجندي

صامويل بيج جونيور

جود إيفيننج … إسمي صامويل بيج جونيور … ده إسمي بالكامل … ممكن تقولي لي سام … زي كل أهلي ما بيقولوا لي … أنا أفروأمريكان من هارلم – نيويورك … جندي في مشاة بحرية الولايات المتحدة … كنت في مقدمة القوات اللي وصلت العراق في عملية “العدالة المطلقة” …. وهي أولي العمليات التي أشترك فيها خارج الولايات المتحدة منذ إلتحاقي بالمارينز منذ عدة سنوات … أنا بأحب حياة العسكرية … كلها إنضباط ودقة .. صحيح الرواتب في الجيش مش قد كده … لكن خدمة الوطن فوق كل إعتبار
محدش يقدر يتكلم عن الحرب غير اللي جرب الحرب بنفسه … كل اللي بنشوفه في الأفلام ده ولا حاجة جنب اللي بيحصل في الحقيقة … مجرد ما يبدأ ضرب النيران بين الطرفين … بتنسي كل حاجة حوليك وتفكر في حاجتين إتنين … نفسك وزملائك … إزاي تحميهم وإزاي يحموك … مش معني إنك في الحرب إنك تنسي إنك تحافظ علي حياتك … حياتك أهم من أي هدف من أهداف الحرب … أهم من إنك تحرر كل شعوب العالم … إرجع قاعدتك سالما وماتعملش حاجة غبية …. دول جملتين لازم نسمعهم قبل أي مهمة


إستمر صوت الهليوكوبتر المزعج يئن في أذني “صامويل بيج” رغم أنها أقلعت لتوها من تلك البقعة قرب معركة صغيرة تدور بين وحدة من الجيش العراقي و أحد وحدات مشاة البحرية الأمريكية … إتبع “سام” إشارة قائده وإنطلق مع زملائه نحو أحد المباني في المكان …. توقفوا قليلا أمام أحد الأبواب في وضع الإستعداد قبل أن ينهار الباب علي أثر ركلة أحد الجنود … إنطلقوا داخل المكان بالإسلوب الذي طالما تمرنوا عليه مرار وتكرار .. لاقوا عدد من العراقيين الذين إستسلموا سريعا بعد أن فرغت ذخيرتهم … أشار القائد لـ “سام” علي ثلاثة من العراقيين الذين تم تقيدهم قائلا

اندفع القائد داخل الحجرة التي امتلأت بالدماء .. وظهرت علي وجهه علامات الدهشة … وهو يقول ..
القائد: “سام” … ماذا حدث ؟؟


رغم كل اللي شفته علي الجبهة الأمامية … إلا أنني زعلت بسبب الرحيل عنها بعد إصابتي … عدت إلي مستشفي في الخطوط الخلفية وبعدها تم ترحيلي إلي وطني مرة أخري … وكان شرف كبير زيارة القائد الأعلي لنا – إحنا المصابين – في المستشفي قبل أن يتم ترحيلنا … ورغم كل المأسي التي شفتها في المستشفي إلا أنها لا تقارن باللي شفته في المدن العراقية … ما حدث للأطفال والنساء بسبب اللي عمله المتوحش صدام وجيشه .. ما أقدرش أصف لكم اللي شفته هناك … كان شيئ مروع جدا
لا أملك إلا أن أحمد الله علي أن هذا الكابوس قد انتهى … وأن الديكتاتور قد حانت نهايته ..وأنه سيلقي جزاءه مقابل ما قام من أعمال بحق شعب العراق الذي نال حريته أخيرا … الحرية التي سينعم بها كل شعوب العالم … شاء أم أبي كل هؤلاء الديكتاتورات اللي بيحكموهم … واحد سقط والباقي هيجيي دورهم في يوم من الأيام … إحنا حاربنا كتير في الماضي علشان ننال حريتنا وجه الوقت اللي نساعد فيه ناس تانية مستضعفين علشان ينالوا حريتهم … ومفيش حاجة هتقف في طريقنا علشان نحقق هدفنا ده … God bless America

الطبيبة

إيزابيل مارتان

بون سوار … إسمي إيزابيل مارتان … طبيبة فرنسية .. تحديدا من مرسيليا بجنوب فرنسا .. ذهبت إلي العراق ضمن البعثة التي أرسلتها الأمم المتحدة لمساعدة المدنيين العراقيين من ضحايا الحرب قدر إمكاننا … كان شيئ مخيف في البداية التواجد بالقرب من الأحداث بالشكل ده .. خاصة مع كل التهديدات اللي ذكرتها وكالات الأنباء عن الخوف من إستخدام صدام للأسلحة الكيماوية أو البيولوجية … ورغم إن من أهداف تواجدي في العراق التعاون مع الجيش الأمريكي للحفاظ علي المدنيين من أي حرب كيماوية أو بيولوجية قد تحدث إلا إني كنت خايفة شوية علي نفسي في البداية .. ومع مرور الوقت والأهوال اللي شفناها بتحصل لأطفال أبرياء كل ذنبهم إنهم تواجدوا في المكان الغلط في الوقت الغلط … الخوف بدأ يختفي ويحل محله إحساس بالمسئولية تجاههم وتعاطف معاهم وإنشغال بأحوالهم


في يوم .. إنتقلنا إلي منطقة أمامية كانت القوات الأمريكية قد سيطرت عليها … وبدأنا نعمل فحوصات للمدنيين الموجودين في المكان ونصبنا عدد من الخيام مؤقتا للعمل فيها لحين تجهيز أحد المباني حتى ننتقل إليه … وبعد عدة ساعات من وصولنا وكنا قد بدأنا فعلا في العمل .. قام الجيش العراقي بهجوم مضاد علي المدينة .. وتحولنا من مهمة فحص المدنيين ومساعدتهم إلي مستشفي ميداني في قلب المعركة … فقصف المدينة لم يفرق بين عسكري ومدني … بدأت حالات عديدة في الوصول إلينا ما بين خدوش وإصابات وأشخاص في أنفاسهم الأخيرة .. وإستمرت المعارك بالخارج لفترة مرت كأنها زمن كامل إلا أن أصعبها علي أنا كان الوقت الذي كنت أعمل علي مصابين في نفس الوقت … نقل إلي الإثنين في نفس الوقت .. كنت أستقبل أحدهما وأتأكد من نقله بطريقة صحيحة وأدورت لاقيت التاني علي التربيزة اللي جنبها … وبصيت حوليا ما لاقيتش حد … وبمعجزة قدرت أنقذ الإتنين … كان أصعب وقت مر علي في حياتي


اندفعت دكتورة “إيزابيل مارتان” خارج الخيمة و هي تصرخ: “بالله عليكم .. أريد مزيدا من المضاد الحيوي”
اصطدمت في طريقها للخارج بهذه الممرضة الأمريكية التي تحمل زجاجات المضاد الحيوي
الممرضة : “هذا هو المضاد الحيوي الذي طلبتينه يا دكتورة”
إيزابيل : “شكرا ماري”
وما كادت تكمل جملتها حتى انفتح الباب و دخل ثلاثة يحملون جنديا أمريكيا يبدو أنه يعاني من إصابة في ذراعه الأيمن الذي تأذي بشدة .. وما أن نقلوه إلي المنضدة حتى إندفعوا إلي الخارج مرة أخري خلف الممرضة التي حملت بعض الزجاجات و خرجت بها
انحنت “إيزابيل” تفحص داخل الجرح في ذراع الجندي الذي ظل يتأوي من شدة الألم .. وما أن إنتهت حتى رفعت رأسها وهي تقول بطريقة تبدو و كأنها تحدث نفسها أكثر مما تحدثه …
إيزابيل: حسنا .. لقد إستقرت الرصاصة بداخل ذراعك ولابد أن نخرجها بسرعة … (سمعت صوتا يتحرك خلفها) .. وعلي هذا فإننا نحتاج إلي …. ماري .. أعطيني حقنة تخدير موضعي …
صمتت لبرهة ثم قالت: … ماري …..
التفتت إلي مصدر الصوت الذي ظنته “ماري” الممرضة و هي تقول: … ماري … قلت أعطيني …
وعندما أكلمت التفاتاتها لم تجد “ماري” و إنما وجدت صبيا عراقيا صغيرا فاقد الوعي بسبب تلك الإصابة في بطنه .. يبدو أنه قد أتي علي نقالة مثل ذلك الجندي
خطت “إيزابيل” نحو الصبي خطوة واحدة قبل أن توقفها تلك الأهة التي أصدرها الجندي الأمريكي خلفها .. وللحظة أدركت الموقف للمرة الأولي … هاهي تقف بين مصابين وحدها ومطلوب منها أن تعالجهما .. أخذت تفكر “هذا مستحيل .. أين ذهب الجميع” … إنطلقت تفتح الباب وهي تصرخ مجددا … “ماري” …. “أنطوان” … وقفت تفكر في ذلك الموقف …. تبدأ بأيهما … إنها تخاطر بحياة أحدهما في سبيل إنقاذ الأخر … فهذا الجندي علي يمينها يأوي من الألم .. والصبي إلي اليسار فاقد الوعي وربما كان يفقد حياته بالفعل … يمكنها أن تبدأ بالأخطر حالا .. وهذا هو الصبي .. فمهما كانت إصابته فإن صغر سنه وضعف بنيته يضاعفان من مخاطرها … إلا أن معالجته قد تأخذ وقتا طويلا تستفحل فيه إصابة الجندي … حسنا إن الإثنين يبدو أنهما في حال خطرة .. يمكنها إذن أن تبدأ بالأهم … وهذا هو الجندي … لقد أتي هنا في مهمة … أتي يحرر بلدا تاركا أهله في خوف و قلق عليه .. لكن ما ذنب الصبي الصغير في ذلك … لقد أتي الجندي هنا وهو يدرك كل هذا .. يدرك أنه معرض للموت وحيدا في الصحراء ببطء وليس علي مائدة حولها أطباء يصارعون الزمن من أجل إنقاذه … هاهي مرة أخري في نقطة البداية لا تدري ماذا تفعل … لابد أن تختار أحدهما
لو مات الصبي فإنها لن تسامح نفسها …
ولو مات الجندي فإنها لن تسامح نفسها أيضا …
و لن يسامحها زملاءه و أهله و ربما أيضا رؤسائها في العمل …

وللحظة أخذت القرار ….
قبل أن ترفع عينيها تجاه الصبي وقدمها تخطو نحو الجندي وهي تقول: “سامحني ….”


العمل تحت مظلة الأمم المتحدة متعة وتحدي في نفس الوقت … متعة لأن الواحد بيقدر يساهم في حل مشاكل ناس عمره ما شافهم قبل كده أو إختلط بيهم أو بشعبهم أو ثقافتهم … وتحدي لأن الفرد العامل لدي الأمم المتحدة بيحاول يكون موضعي وعلي الحياد في قراراته وتفكيره وحتى يمكن كمان في مشاعره .. يحاول يشوف الأمور من وجهتي النظر المتضادين علشان يقرب ما بينهم … ده طبعا بيكون أكتر دور السياسيين .. أما إحنا الأطباء بنحاول نحل مشاكل كبيرة بإمكانيات متواضعة نوعا ما … أو علي الأقل مش نفس الإمكانيات اللي أتيحت لنا في بلادنا … فمهما كانت الإمكانيات اللي بتقدمها الدول الغربية فهي ليست علي مستوي الإمكانيات المتاحة للشعوب في الدول ديه … أحيانا بأشعر إن الدول ديه بتقدم المساعدات للدول الفقيرة كنوع من تخفيف الإحساس بالذنب تجاهها … كمثال الحرب علي العراق … ورغم مشاركتي في بعثة الأمم المتحدة والعمل بجانب أطباء الجيش الأمريكي إلا إن ده لا يمنع أن يكون ليا رأيي الشخصي في إن الحرب لم تكن بهذه الضرورة … وكان من الممكن منعها أو حل المشكلة بطريقة أخري .. ومن رأيي أيضا إن البعثات اللي راحت العراق لتقديم المساعدة هي نوع من الإعتذار للشعب العراقي عن الفوضي اللي سببتها الحرب …. أنا سعدت بكوني من أطباء البعثة لمساعدة المدنيين العراقيين إلا إني كنت هأكون أكثر سعادة لو كان ده بسبب تاني غير الحرب

بعد عشر سنوات

بعد مرور عشر سنوات علي سقوط بغداد … ظلت هذه الشخصيات الستة في ذهني كما لو كنت قابلتها بالأمس .. ولما أتيحت لي فسحة من الوقت بعيدا عن أعمالي وكتاباتي .. بدأت أبحث عنهم وأتقفي أخبارهم لأري ماذا فعل بهم الزمن
تيم هاندرسون … ترك المخابرات وإنتقل إلي وظيفة في أحد المؤسسات الإقتصادية كوسيط للبيع والشراء
عادل العجاني … حصل علي إسم جديد له ولعائلته و إنتقل إلي بلد أوروبي وبدأ حياة هناك لم يهنأ بها كثيرا حيث إختفي بعد 3 سنوات تقريبا بطريقة مجهولة … ولم يستدل عليه حتى الآن
الصيني لي سو إيان .. رحل عن وكالة الأنباء التي يعمل بها وإنتقل إلي الولايات المتحدة حيث يعمل محررا بأحد محطات الأخبار
صامويل بيج جونيور .. أو سام … ترك الجيش بعد عودته بفترة وعاد إلي أهله .. ألقت المباحث الفيدرالية القبض عليه لتجارته في السلاح بطريقة غير شرعية … ويقضي الآن فترة سجنه
د/ إيزابيل مارتان .. ترقت في العمل لدي الأمم المتحدة بعد عودتها من العراق … وإستمرت في العمل هناك لفترة قبل أن تستقيل لتعود إلي مرسيليا لتعمل بتدريس الطب و ممارسته هناك
هؤلاء خمسة استقروا في ذهني طوال هذه السنوات العشرة إلا أن السادس هو من أستقر في قلبي طوال هذه الفترة الطويلة لما رأيته من حاله الذي لم يحتاج لأن يتحدث عنه حتى أفهم
محمد … طفل عراقي كان يبلغ من العمر 8 سنوات عند بدء الحرب الأمريكية علي العراق .. فقد أبواه في أحد موجات القصف الأمريكية … إنتقل إلي كنف عمه الذي تولي تربيته لمدة طويلة …. عدت إلي العراق لأبحث عن محمد … ذهبت إلي مدينته التي لم تتغير كثيرا علي عكس بغداد التي إستقرت فيها المباني الشاهقة و الكباري و المتاجر الضخمة علي الطريقة الأمريكية … وجدت ذلك المتجر الذي يديره عمه .. دخلت المتجر بهدوء و أنا أتطلع إلي محتوياته التي لم تتغير كثيرا مقارنة بالفترة الطويلة .. توجهت إلي ذلك الشخص الجالس خلف ماكينة الحساب العتيقة … وأنا أقول : “السلام عليكم”
قال: “و عليكم السلام”
أخرجت صورة الصبي التي احتفظت بها طوال هذه المدة .. ومددت يدي إليه بها و أنا أقول : “ أبحث عن صاحب هذه الصورة .. إنها قديمة بعض الشئ لكني أعرف أن عمه هو صاحب هذا المتجر … أو علي الأقل كان صاحب هذا المتجر من عشر سنوات”
قال : “أبي هو صاحب المتجر .. لكنه توفي في العام الماضي .. وهذه صورة محمد إبن عمي … لقد تغير شكله الآن”
مد يده مشيرا إلي صورة علي الجدار .. إلتفت إليها لأطالع شابين يلبسان كلا منهما جلبابا قصيرا وقد إطلقا لحيتهما … دققت في الصورة لأعرف أيهما محمد قبل أن يقاطعني صوت الجالس خلف الماكينة وهو يقول: “هو علي اليمين في هذه الصورة … لقد رحل بعد وفاة والدي بعدة أشهر مع صديقه علي اليسار … في يوم إستيقظنا من النوم و لم نجدهما”
توقفت للحظة أمام الصورة أفكر في ما أشعر به تجاه ما آلت إليه الأمور … قبل أن أستدير خارجا من المتجر تاركا الجالس علي الماكينة يهم بسؤالي عن سبب مجيئي ولم يلبث أن تراجع عنه



النهاية
عمرو الديب
القاهرة - يناير 2004

إنشر
%}