إعادة هيكلة الحكومة: مركزة الخدمات الداعمة

في تدوينة سابقة شرحت الدافع وراء هذه التدوينة وغيرها.

في أي مؤسسة سواء كانت شركة أو هيئة أو جمعية خيرية، أيا كان حجمها كبيرا أو صغيرا، فإنها تضم فرق عمل كل مهمتها هي دعم وخدمة الوظيفة الأساسية للمؤسسة. من أمثلة ذلك: أعمال نظم المعلومات – شئون العاملين - الأمن – الحسابات – الشئون القانونية – أعمال الصيانة – أعمال النظافة وما شابه. في كل مؤسسة في الحكومة سواء كانت وزارة أو قطاع أو إدارة أو حتي إدارة فرعية أو إقليمية هناك فرق عمل قائمة علي توفير هذه الخدمات ويتراوح حجمها بين إدارات كاملة إلي شخص واحد. ومع كل فريق عمل داخل أي مؤسسة يتم إعادة إختراع العجلة في أداء عملهم رغم أنه يتكرر في مؤسسة أخري تنتمي لنفس الحكومة.

خليني أشرح بمثال علشان نسهل الأمور شوية. أعمال نظم المعلومات واللي ممكن تتراوح بين شراء أجهزة كومبيوتر إلي تصميم وإدارة نظم معلومات وحتي مواقع الإنترنت. تلاقي كل فريق نظم معلومات يؤدي عمله بمعزل تماما عن فرق نظم المعلومات المناظرة في وزرات أخري. والعزل ده لا يقتصر علي عدم تشارك الفرق ديه لنفس التكنولوجيا أو أساليب التنفيذ ولكن أيضا يمتد إلي حتي مجرد العلم بوجود الفرق المناظرة. ممكن فريق نظم معلومات في وزارة يبدأ في تنفيذ مشروع لحل مشكلة معينة ليكتشف بعد عدة أشهر إن فيه وزارة أخري فيها فريق بدأ من سنتين إنه يحل نفس المشكلة وإنه مثلا بيستخدم تكنولوجيا تانية خالص ومحقق مجهود كويس. لكن لمجرد إن الوزارة المتأخرة أكبر وأهم من الوزارة اللي بدأت الأول تلاقي إن المشروع التاني يستمر والمشروع الأول يقفل وكل الشغل بتاعه يتركن في الدرج ولا يتم إستخدامه لأنه بتكنولوجيا مختلفة. أو – يمكن الأسوأ – أن يستمر المشروعين في محاولة حل نفس المشكلة بدون سبب واضح لازدواج المجهود.

من الممكن بسهولة أن تكتشف أن هناك فرق عمل تقوم بتطوير برمجيات في وزارة الإستثمار مثلا أو وزارة الصحة. بالتأكيد هناك حاجة لهذه الوزارات إنها تطور برمجيات لكن مش مطلوب أبدا إنها تكون المسئولة عن ذلك. إن لم تجد الوزارة تقوم بنفسها بتطوير البرامج فإنها تقوم بعمل مناقصة وإختيار شركة تقوم بتطوير البرنامج وهو حل إن لم يدل علي الغباء فهو يدل علي إنعدام الخيال والعجز الهيكلي للمؤسسة، فتطوير موقع علي الإنترنت لعرض بعض المعلومات المبدئية عن الوزارة لا يتطلب كل هذا الجهد.

العجز الهيكلي Structural Deficiency للمؤسسة (وبالإمتداد للحكومة كلها) يكمن في عدم مركزة هذه الخدمات الداعمة Centralizing Support Services في مؤسسات تقوم علي توفير هذه الخدمات بدرجة عالية من الكفاءة لكل مؤسسات الحكومة (والدولة). هذا العجز الهيكلي ينتج عنه المشاكل التالية:

  1. إعادة إختراع العجلة: في مثال زي تصميم موقع للوزارة، تقوم كل وزارة بإختيار تكنولوجيا مختلفة مش بالضرورة علي أساس ما يناسبها ولكن بالأساس علي مدي الإمكانيات المتوافرة لها سواء كانت إمكانات بشرية أو مادية. في النهاية موقع وزارة الكهرباء هو نسخة معدلة من موقع وزارة الداخلية أو الإسكان أو التعليم كما أن عجلة السيارة هي نسخة معدلة من عجلة الشاحنة، إلا أن في ظل عدم وجود تواصل بين هذه الفرق يتم إعادة إختراع العجلة.

  2. إهدار موارد وعدم كفاءة المنتج: إعادة إختراع العجلة يؤدي بالضرورة إلي ظهور أشكال متعددة من العجل ليست كلها بالضرورة علي نفس الدرجة من الكفاءة ولا حتي هناك ضمانة أنها جميعا من الممكن أن تعمل معا علي نفس السيارة.

  3. بطء التنفيذ: إذا ما أرادات وزارة الإسكان طلب عدد من أجهزة الكومبيوتر فإنها تقوم بإعداد مناقصة ومراجعتها وعرضها والإنتهاء منها وتنفيذها وتوريد الأجهزة. سنة علشان نجيب كام كومبيوتر. إذا ما كانت هناك جهة واحدة في الحكومة مسئولة عن توريد أجهزة كومبيوتر فهذه العملية ستكون أسرع وستكون مستمرة طوال العام لأن الحكومة حجم طلباتها كبير لدرجة أن هذه الجهة الخدمية ستكون قادرة علي تلبية طلب وزارة الإسكان فورا من مخزون تقوم بتكوينه بناء علي توقع طلبات أجهزة الحكومة. كذلك ستكون الجهة الخدمية قادرة علي الحصول علي مواصفات أفضل وأسعار أفضل وخدمات ما بعد البيع أفضل بسبب الحجم الكبير لطلباتها.

  4. طرق سيئة لإختيار فرق العمل: بصرف النظر عن الواسطة والمحسوبية في التعيين في الوزارات وهي مشاكل مهمة لكنها ليست مشاكل هيكلية. المشكلة الأخرى هي أن القائمين علي إختيار فرق العمل في الوزارات هم غير متخصصين حيث يقوم متخصص في الإستثمار بإختيار فرق نظم المعلومات للوزارة وكذلك يقوم بإدارة عملهم بشكل أو أخر.

  5. إختلاف كبير في مرتبات القائمين علي نفس الأعمال بين وزارة وأخري: تجد مثال واضح ومشهور في شرطة الكهرباء اللي مرتباتها عالية مقارنة بإدارات شرطة وأمن في وزارات أخري لمجرد أن المرتبات تأتي من الوزارة التي ينتمي إليها الفرد وليس بناء علي الوظيفة التي يقوم بها. في النهاية يؤدي ذلك إلي مراكز يكره الجميع توليها رغم أنها نفس الوظيفة بالضبط مثل أي مركز أخر وهو ما يفتح مجال أكبر للواسطة والمحسوبية للإتجاه إلي مراكز معينة أو البعد عن مراكز أخري.

الحل يكون في تكوين أجهزة خدمية مركزية تقوم علي تقديم هذه الخدمات لأي جهاز في الدولة ويكون ذلك بالمواصفات التالية:

  1. أجهزة بيروقراطية تكنوقراطية: هذه الأجهزة قائمة فقط لخدمة ودعم أجهزة الدولة وليس هناك أي داعي أو سبب منطقي يجعل تعيين إداراتها من ضمن سلطة رئيس الجمهورية أو حتي رئيس الحكومة. الحل هو إقامة نظام يؤدي إلي إستقلال هذه الأجهزة وتصعيد قياداتها بناء علي كفاءاتها.

  2. ميزانية مستقلة عن الوزارات: تقوم الأجهزة الخدمية بتقديم خدماتها للوزارات بمقابل مادي حيث تحسب تكلفة الخدمة كدخل للجهاز وكمصاريف للوزارة التي تتلقي الخدمة. يقوم مجلس الشعب (أو أجهزة رقابية يقوم مجلس الشعب بتكوينها) بمراجعة ميزانية هذه الأجهزة والأسعار التي يتقاضاها مقابل الخدمات التي يوفرها. يكون من حق مجلس الشعب أن يأمر هذه الأجهزة بتحمل خسارة مادية في سبيل توفير الخدمات بسعر أفضل أو توفير خدمات معينة بدون مقابل لكل أو بعض أجهزة الحكومة أو الدولة ويقوم مجلس الشعب بسد عجز هذه الميزانيات. يكون من حق الحكومة التوجه بطلب لمجلس الشعب لتحديد هذه المصاريف.

  3. إيفاد عاملين: تقوم الأجهزة الخدمية بإيفاد عاملين مقيمين في الوزارات المختلفة ويتم التجديد لإقامة هؤلاء العاملين وفقا للمشاريع القائمين علي تنفيذها أو وفقا لمدة زمنية (يتم التجديد كل سنة مثلا). يتخذ قرار التنفيذ ممثل من الجهاز وممثل من الوزارة. كل عامل يتم إيفاده يكون تحت إشراف مديره في الجهاز الخدمي وكذلك ممثل الوزارة (وهو يعتبر بمثابة العميل/الزبون الذي يقوم بتحديد ما هي المهام المطلوب تحقيقها). يتم إدارة العلاقة بين ممثل الجهاز الخدمي وبين ممثل الوزارة بطريقة مماثلة لطريقة إدارة العلاقة بين مدير مشروع والزبون صاحب المشروع.

  4. نظام إليكتروني للتواصل والربط: القدرة علي إنجاح نظام لمركزة الخدمات قائمة بشكل أساسي علي وجود طفرة في أنظمة الربط والإتصالات يتم من خلالها متابعة العمل عن بعد مما يتيح لمديري المشروعات في الأجهزة المركزية القدرة علي متابعة سير العمليات في الوزارات دون الحاجة للتواجد بشكل دائم فيها.

  5. خطوط واضحة للمسئوليات: علي كل جهاز خدمي أن يحدد وفقا لطبيعة الخدمة التي يقدمها المسئوليات التي تتضمنها هذه الخدمة والأشخاص الذين سيشاركون في تقديمها وكذلك وصف للمسئوليات المطلوب من الوزارة أن تقوم بها. مثلا: علي الوزارة أن تقوم بتحديد مسئول عن الموافقة علي طلبات توريد أجهزة الكومبيوتر. إذا ما قامت إدارة بالوزارة بالتقدم بطلب لتوريد أجهزة يكون علي هذا المسئول الموافقة علي هذا الطلب بعد الإطلاع علي الميزانية وتحديد إذا ما كان الطلب مستحق أم لا.

النقاط السابقة هي بعض الملامح الأساسية لكيفية عمل هذه الأجهزة الخدمية وهي بالتأكيد ليست كل الملامح ولا حتي الملامح الأساسية لكنها تعطي فكرة عن الإتجاه الممكن إستخدامه في إعادة هيكلة الحكومة لكي تكون قادرة علي أداء عملها بشكل أفضل. في تدوينات لاحقة إن شاء الله سيتم إضافة ملامح أخري تنطبق علي هذه الأجهزة الخدمية مثل ما تنطبق علي مؤسسة حكومية أخري مثل صياغة بيانات الأهداف ومراجعة الأداء وتدريب العاملين.

إنشر
%}