إعادة هيكلة الحكومة: شركات المنفعة العامة

في هذه التدوينة – وبعد فترة من التوقف نتيجة للإحباط - أستكمل طرح بعض الأفكار عن كيفية إعادة هيكلة الحكومة.

الكثير من الوظائف التي تؤديها مؤسسات وأجهزة الحكومة هي بطبيعتها وظائف خدمية منفصلة عن المهام السيادية للحكومة. في بعض الأحيان تكون هذه الوظائف متشابكة مع المهام السيادية لدرجة أن الهيئة الحكومية تقدم خدمة تعبر عن سيادة الدولة. مثال: إصدار جوازات سفر أو بطاقات هوية هي في حد ذاتها خدمة إلا أن ليست فقط خدمة تحتكرها الدولة (فتمنع شركات القطاع الخاص من ممارستها) ولكن أيضا تعبر عن سيادة الدولة علي أراضيها ومواطنيها (فيستحيل علي القطاع الخاص أن يقدم خدمة ممائلة).

باقي المؤسسات تقدم خدمات فقط ولا تعبر عن أي سيادة للدولة. هناك مؤسسات تقدم خدمات بالمنافسة مع القطاع الخاص مثل المستشفيات. وهناك مؤسسات تقدم خدمات وتحتكر مجال عملها بدون منافسة من القطاع الخاص وبحكم القانون مثل الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء أو الهيئة العامة للمساحة. هذه الهيئات سواء كانت تنافس أو تحتكر مجالها فهي هيئة خدمية تقدم خدمات مباشرة للمواطنين أو لباقي أجهزة الحكومة.

المشكلة هنا هي أن تباعية هذه الأجهزة لأجهزة حكومية أو وزارات أو رئاسة الجمهورية تقلل من كفاءة وقدرة هذه الأجهزة علي أداء عملها. الحكومة والدولة المصرية تعاني من المركزية في كل قراراتها، ليس فقط في التعينات ومن يقوم بتولي المناصب ولكن في قراراتها يصل بعضها إلي التفاصيل اليومية. الهدف هو التخلص من هذه المركزية مع الإحتفاظ للحكومة بالقدرة علي التحكم في الإتجاه العام لمؤسساتها وأجهزتها الخدمية.

أحد الحلول المطروحة دائما لتحسين أداء الحكومة هي التعهيد الخارجي. تقوم الحكومة بطرح مناقصات علي شركات من القطاع الخاص لأداء بعض من خدماتها. تختلف نوعية هذه الخدمات بناء علي ثقافة الحكومة والدولة. في مصر حيث مازالت الخصخصة في بدايتها وتعاني من رفض شعبي كبير، تقوم الحكومة بالتعهيد الخارجي لخدمات تنظيف الشوارع مثلا. في الولايات المتحدة حيث يفضل نسبة كبيرة من الأمريكيين القطاع الخاص علي الحكومة في أداء أي خدمة، تقوم الحكومة بالتعهيد الخارجي لخدمات السجون مثلا فيذهب المحكوم عليهم في بعض الولايات إلي سجون قطاع خاص تخضع لرقابة حكومية، وتقوم الحكومة بدفع مبالغ مالية مقابل كل سجين.

التعهيد الخارجي له مشاكل كثيرة ليس فقط إرتفاع التكلفة وإنخفاض مستوي الخدمة (رغم الرقابة الحكومية) ولكن المشكلة الأساسية هي أن وجود دافع مادي خلف تقديم هذه الخدمات يغير من طبيعة الخدمة ويؤثر علي التعاقد بين مقدم الخدمة ومستهلكها. في مصر، قامت شركات النظافة بتوظيف أطفال تحت السن للقيام بكنس الشوارع. وفي الولايات المتحدة، قامت شركات السجون برشوة بعض القضاة ليقوموا بزيادة فترات أحكام بعض المسجونين.

الحل يكمن في بناء منظومة تجمع بين أفضل ما يقدمه كل نموذج. المؤسسات الحكومية تقدم خدمات بهدف المنفعة العامة بدون دافع مادي وبأسعار تغطي فقط التكلفة. القطاع الخاص قائم علي هياكل إدارية مستقلة تستطيع التحكم في تفاصيل عملها بدون الرجوع إلي سلطة مركزية حتي ولو كانت تتبع قوانين وتخضع لرقابة.

الحل يكمن في تكوين نوع جديد من الشركات المستقلة التي لا تهدف للربح. شركات للمنفعة العامة.

يكون للشركة مجلس إدارة يقوم علي توجيه سياساتها. ويكون لها رئيس (أو عضو منتدب) يقوم علي إدارة أعمالها. يضم مجلس الإدارة ممثلين عن الوزارات المعنية حيث يكون لكل وزارة مقعد في مجلس الإدارة. ويضم المجلس ممثلين عن المهن المتعلقة بمجال عمل الشركة من نقابات وعمال. ويضم المجلس ممثلين عن الجامعات والعلوم المتعلقة بمجال عمل الشركة، وكذلك ممثلين عن الحكم المحلي إذا ما كان مجال خدمة الشركة إقليميا. وأخيرا شخصيات عامة مشهود لها بالكفاءة. تكون مهام مجلس الإدارة مثل مهام أي مجلس إدارة في شركة خاصة، من تعديل الإتجاه العام للشركة إلي إختيار رئيس أو عضو منتدب.

تمارس الحكومة تأثيرا علي الشركات من خلال ممثليها في مجلس الإدارة. وتمارس الدولة تأثيرا علي الشركات من خلال البرلمان الذي يتحكم في القوانين التي تشكل هذه الشركات.

لكل شركة ميزانية خاصة مستقلة ويقوم القائمين علي الشركة من مسئولين ومجلس إدارة بالتحكم في هذه الميزانية. تقوم الشركة بتحقيق مكاسب من خلال الخدمات التي تقدمها سواء للمواطنين أو للحكومة. تحصل الشركة مكسبا من الحكومة حتي لو كانت تحتكر الشركة مجال عملها.

يكون لكل شركة بيان أهداف يحدد المهام الأساسية التي تقوم الشركة علي أداءها ونوعية الخدمات التي تقوم بتقديمها. لا تتوسع الشركة في ما تقدمه من أهداف إلا بعد تعديل بيان أهدافها والذي يتم بمشاركة مجلس الإدارة.

بعض الأمثلة: المستشفيات: يكون لكل مستشفي نطاق جغرافي للخدمة وكذلك قائمة بنوعية الخدمات التي تستطيع تقديمها. تدفع الحكومة تكلفة علاج كل مريض يأتي إلي المستشفي وفقا لما قدمته المستشفي من خدمات وذلك طبقا لأسعار متفق عليها. تقوم المستشفيات (كمجموعة) بالتفاوض مع الحكومة (ممثلة في وزارة الصحة) علي أسعار ما تقدمه من خدمات (وقد تختلف الأسعار من محافظة لمحافظة). تقوم الحكومة سنويا بطرح خطة للإستثمار في المستشفيات (كجزء من خطط تنمية الدولة بشكل عام) فتقدم منح مشروطة أن يتم توجيها للإستثمار في مجال معين. تقوم وزارة الصحة بمراقبة مدي إلتزام المستشفيات بتطبيق شروط المنح.

مثال آخر: جهاز الإحصاء: المهمة الأساسية لجهاز الإحصاء هي إجراء التعداد كل عشرة سنوات. ومن مهامه أيضا إجراء أي إحصاءات تطلبها باقي أجهزة الدولة أو إحصاءات عامة مهمة للمواطنين. يحتكر جهاز الإحصاء مجال عمله لكن يمكن للحكومة أن تقوم بدفع تكلفة المهمة الأساسية أو أي مهام أخري مع إحتفاظ الجهاز بإستقلاله عن باقي أجهزة الدولة. تقوم أجهزة الدولة بدفع مقابل مع يقدمه الجهاز من خدمات مباشرة لها. يدفع المواطنين مقابل مع يطلبونه من خدمات أيضا.

شركات المنفعة العامة تختلف عن شركات القطاع العام في كونها مستقلة تماما عن هيكل الحكومة فلا تتحكم الحكومة بشكل مباشر في تعينات العاملين فيها أو تخضع الشركة للوائح الحكومة بشكل مباشرة وإنما تخضع الشركات لقانون صادر عن البرلمان مثلما تخضع شركات القطاع الخاص لقانون ينظم أعمالها. من ضمن هذه القوانين قواعد لمحاسبة القائمين علي هذه الشركات في حالة إهدار مواردها. قد تخضع هذه الشركات لرقابة من الحكومة متمثلة في هيئة تقارير ترفع إلي الحكومة تنقل تفاصيل كيفية أداء الشركات لعملها وذلك للتعرف علي الشركات التي يتم إساءة إدارة عمله قبل فوات الأوان. تتم هذه الرقابة علي نحو مماثل لنشر الشركات الخاصة لتقارير ربع سنوية تعلن فيها عن حجم أعمالها ونموها.

إنشر
%}