إسأل أي سؤال

أيام الكلية، كان عندنا نشاط واجب علي كل الشباب إسمه “التربية العسكرية”. مش عارف إذا كان مازال ده مستمر ولا لأ. لا أعتقد إن فيه سبب يخليه يتوقف. كانوا إسبوعين في الصيف تقضيهم في تمارين بدنية وشوية محاضرات وبعدين تأخد ورقة تقول إنك خلصت التربية العسكرية بتاعتك. زي أي حاجة في التعليم في مصر، المهم الشهادة.

كنت قررت أخلص التربية العسكرية بتاعتي بعد أول سنة كلية علشان “نخلص بدري بدري” وعلشان في السنوات اللي بعد كده أقدر إني أدور علي تدريب أو شغل في الصيف.

أنا مش فاكر تفاصيل كتيرة من الإسبوعين دول غير يمكن حاجتين إتنين. أولا: كان لازم أكون في الجامعة الساعة سبعة ونص الصبح وده ميعاد بيتعارض بشدة مع جدول نومي اللي غالبا بيمتد لغاية الساعة عشرة خصوصا إن ده كان معناه إني أنزل من البيت الساعة ستة بالكتير. مش مشكلة، إسبوعين ويعدوا.

الحاجة التانية اللي فاكرها هي اليوم اللي زارنا فيه ضابط كبير. علي ما أفتكر كان عميد (يمكن عقيد .. أنا مش بأفتكر الرتب زي ما مش بأفتكر الأسماء). سيادة العميد كان جاي يتفقد التدريب والأحوال عاملة إيه. الراجل كان كويس جدا معانا وجت لنا الفرصة إننا نعرفه شوية من خلال محاضرة إتجمعنا كلنا في مدرج كبير (حوالي 30 صف في قاعة فيها تلات أقسام: يمين ووسط وشمال) والقاعة كانت مليانة علي الأخر .. يعني عدد فعلا كبير. سيادة العميد بدأ يتكلم عن التربية العسكرية وعن الجيش شوية وخدمة الوطن ومستقبل الشباب وكلام كله كويس جدا.

وبعدين .. فتح باب الأسئلة.

لا أعتقد إن فيه حد كان متوقع الجزء ده لأن كلنا تقريبا فضلنا ساكتين وثابتين في أماكنا بنبص لبعض من غير ما حد يدور رأسه.

وبعدين الراجل أصر … “أي سؤال يا شباب” …. “بجد”

واحد رفع إيده وهو متردد إذا كان الفعل ده يتعارض مع أمر الرائد المسؤول عنا بإننا نكون علي أحسن سلوك علشان “فترة خدمتنا تعدي علي خير”

سيادة العميد أخد باله فورا وأشار للطالب علشان يسأل السؤال اللي إتضح بسرعة إنه سؤال محدد عن التربية العسكرية والشهادة وأي كلام مش مهم.

الراجل أجاب بسرعة لكن واضح إنه لم يكن ده هو نوعية الأسئلة اللي هو بيدور عليه.

ده مش تخمين مني .. هو نفسه قال: أنا عايز أسمع أسئلتكم .. أنا هنا النهارده وعايز في شوية الوقت اللي قدمنا إننا نعمل حوار نعرف بعض شوية.

“ده بجد بقي؟” .. كلنا تقريبا فكرنا نفس الفكرة وعليه إتصرفنا

قول مثلا بتاع خمسين واحد رفعوا إيديهم

الراجل إبتسم وقال: خلينا نمشي بالدور .. نبدأ من فوق خالص

سؤال وبعده سؤال ووراه سؤال تاني .. بعد كل سؤال تلاقي أيادي أكتر بتترفع وإحنا ماشيين بالدور من أعلي صف لأول صف .. كل وأي سؤال ممكن تتوقع إنه يتسأل في مكان زي ده إتسأل .. أسئلة جادة وأسئلة ظريفة وأسئلة تخليك تشكك في ذكاء أو تعليم اللي بيسألها. من أول: “تفتكر المناهج المدرسية المفروض تتكلم عن دور مصر في الحرب العالمية الأولي والتانية” إلي “أخر حرب حاربناها كان في 73 .. إزاي ممكن نعرف إن جيش مصر دلوقتي قوي؟” (والله العظيم مش بأهزر)

بعد ساعتين وشوية .. الوقت والأسئلة خلصوا والراجل رسم إبتسامة واسعة علي وشه وشكر الحاضرين وهو قايم يمشي سايب الشباب في القاعة مبسوطين من اليوم الوحيد اللي له معني في الإسبوعين اللي ضاعوا من عمرنا.

وبعد شوية .. رجع الرائد.

يبدو إن الأسئلة ما عجبتش سيادة الرائد.

“يا ولاد المـ⁎⁎ يا شوية مـ⁎⁎⁎⁎⁎ .. أنا أصلا إبن و⁎⁎⁎ إني بأعاملكم كبني آدمين وإنتوا تستحقوا ضرب الجزمة”

إستمرت القصيدة شوية ثواني تانية وإحنا مش عارفين إحنا عملنا إيه بالضبط

الأكيد هو إننا كنا عارفين كويس هنعمل إيه بكره لما نرجع نكمل باقي الإسبوعين. هنعمل صفا وإنتباه وجري في المكان علي أفضل ما يكون، وهنعملهم وإحنا ملتزمين باللبس المحدد، وهنفضل ملتزمين في أماكنا وإحنا بنسمع كام زميل بينطرد ويتأمر إنه يجي السنة الجاية يتربي من أول وجديد.

لغاية دلوقتي إحنا مش عارفين إحنا عملنا إيه. الراجل طلب أسئلة، وأسئلة هي اللي إحنا طرحناه.

لو هو مش قد السؤال .. بيطلب أسئلة ليه؟ ولو قد السؤال ومبسوط .. إحنا نتعاقب ليه؟

أعتقد إن الرجل العسكري بشكل كبير ما يقدرش يقبل أي تحدي لسلطته. إما إنه يطيع أو يطاع. حتي إنه يطيع فيها عظمة ومجد. فيها إلتزام بالواجب وتنفيذ للأوامر. وأحيانا حتي فيها حجة تقدم للمحكمة كأنها تبرير لجريمة، ده مدي عظمة الطاعة.

وعلي الناحية التانية فيه طاعة لأي أمر يعطيه. مفيش تردد أو سؤال أو نقاش. فيه طاعة.

تحدي السلطة شئ مختلف. هي حالة في المنتصف فيها إحتفاظ لصاحب السلطة بسلطته ماديا لكن تقليل منها ومن إمتلاكه ليها معنويا. ده تقريبا شئ غير مقبول.

مش عارف إذا عقاب الرائد لينا كان من رد فعله هو ولا نتيجة تعليق من العميد. لا أعتقد إني أبدا ممكن أعرف.

اللي أعرفه إني إفتكرت القصة ديه النهارده وأنا بأتفرج علي سيادة المشير بيتسأل. فيه لحظة بين طرح السؤال وبين بدأ الإجابة. لحظة مش بيفكر فيها إزاي يجاوب، لحظة أعتقد إنه بيقول: إيه اللي بتسأله ده، أنا قلت لك” إسأل أي سؤال”.

إنشر
%}